فصل: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في جواز التجارة في الحج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

و{من قبله} يتعلق بمحذوف، ويبينه قوله: {لمن الضالين}، التقدير: وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله: من الضالين، وقد تقدّم نظير هذا.
والهاء في قبله، عائدة على الهدى المفهوم من قوله: هداكم، أي: وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام، وقيل: تعود الهاء على القرآن، وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم.
والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان، وقيل: من الضالين عن مناسك الحج، أو عن تفصيل شعائره. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فائدة في الإذن في التجارة في موسم الحج:

اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصانًا في الطاعة لم تكن مباحة، أما إن لم توقع نقصانًا ألبتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها، لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينه: 5] والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة، وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه» والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص. اهـ.

.فائدة من قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ}:

قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} دليل على أنّ المراد التجارة بالمال الحلال أما الحرام فلا.
قيل لابن عرفة: كله من الله؟ فقال: أما باعتبار القدرة فنعم، وأمّا باعتبار الإذن فلا، والآية خرجت مخرج الإذن ورفع الحرج. اهـ.

.فائدة في ذكر عرفات باسمه:

ذِكر {عرفات} باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يُذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان، خلافًا لأبي حنيفة في الصفا والمروة، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله: {فمن فرض فيهن الحج} [البقرة: 197]، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء. اهـ.

.فائدة في صرف عرفات:

سؤال: فإن قيل: هلا منعت الصرف وفيها السببان: العلمية والتأنيث أجيب: بأن التأنيث لا يخلو: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وأما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع التأنيث ولا يصح تقدير التاء فيها لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما، لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي فيها هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها، وفي الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ إذا تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لابد منه، فكأنه قيل بعد إفاضتكم من عرفات التي لابد منها اذكروا الله، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها، فوجب أن يكون الوقوف بها واجبًا، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج». اهـ.

.فائدة في المشعر:

{المشعر} المعلم وأصله من قولك: شعرت بالشيء إذا علمته، وليت شعري ما فعل فلان، أي ليت علمي بلغه وأحاط به، وشعار الشيء أعلامه، فسمى الله تعالى ذلك الموضع بالمشعر الحرام، لأنه معلم من معالم الحج، ثم اختلفوا فقال قائلون: المشعر الحرام هو المزدلفة، وسماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده، هكذا قاله الواحدي في (البسيط) قال صاحب (الكشاف): الأصح أنه قزح، وهو آخر حد المزدلفة والأول أقرب لأن الفاء في قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة. اهـ.

.فائدة في اشتقاق المشعر:

{المشعر} اسم مشتق من الشعور أي العِلْم، أو من الشِّعَار أي العَلاَمة، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبسُ ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت.
أو وصف المشعر بوصف {الحَرام} لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات. اهـ.

.فائدة تسمية المزدلفة:

وفي تسمية المزدلفة أقوال:
أحدها: أنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب.
والثاني: أن الناس يجتمعون فيها والاجتماع الازدلاف.
والثالث: أنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف ويقال للمزدلفة: جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب، وهذا قول قتادة، وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها. اهـ.

.فصل في فضل يوم عرفة:

قال القرطبي:
يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفّر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال؛ قال صلى الله عليه وسلم: «صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية» أخرجه في الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
وروى الدّارَقُطْنِيّ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثرَ أن يُعتق الله فيه عددًا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يُباهِي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء» وفي الموطأ عن عبيد الله بن كَرِيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أَحْقَر ولا أَدْحَر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر». قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: «أمَا إنه قد رأى جبريل يَزَع الملائكة» قال أبو عمر: روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء، والصواب ما في الموطأ. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: حدّثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدّثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدّثنا عبد القاهر بن السري السّلمي قال حدّثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جدّه عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشيّةَ عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه: إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضًا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها. قال: «يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرًا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم» فلم يجبه تلك العشِيّة؛ فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه: إني قد غفرت لهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقيل له: تبسمْتَ يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: «تبسمت من عدوّ الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثُّبور وَيحْثي التراب على رأسه وَيفِرّ» وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدّثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منىً غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسُّؤّال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له» قال أبو عمر: هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظًا عنه إلا من هذا الوجه؛ وأبو عبد الغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشدّدون في أحاديث الأحكام. اهـ.

.فصل في تغيير أهل الجاهلية مناسك الحج:

اعلم أن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم عليه السلام، وذلك أن قريشًا وقومًا آخرين سموا أنفسهم بالحمس، وهم أهل الشدة في دينهم، والحماسة الشدة يقال: رجل أحمس وقوم حمس، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات، ويقولون لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس، والذي يقفون بمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ومعناه: أشرق يا ثبير بالشمس كيما نندفع من مزدلفة فيدخلون في غور من الأرض، وهو المنخفض منها، وذلك أنهم جاوزوا المزدلفة وصاروا في غور من الأرض، فأمر الله تعالى محمدًا عليه الصلاة والسلام بمخالفة القوم في الدفعتين، وأمره بأن يفيض من عرفة بعد غروب الشمس، وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، والآية لا دلالة فيها على ذلك، بل السنة دلت على هذه الأحكام. اهـ.

.فصل في الاختلاف في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام:

اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام فقال بعضهم: المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك والصلاة تسمى ذكرًا قال الله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] والدليل عليه أن قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} أمر وهو للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلا هذا، وأما الجمهور فقالوا: المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال: كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِمَنْ الضَّالِّينَ}.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي: فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في جواز التجارة في الحج:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عَنْ رَسْمِ الْإِخْلَاصِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ أَنَّ الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ أَجْرًا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}:

الْإِفَاضَةُ: السُّرْعَةُ بِالدَّفْعِ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا دَفْعٌ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِفَاضَةِ، وَالْإِسْرَاعُ هَيْئَةٌ فِي الْإِفَاضَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «كَانَ إذَا دَفَعَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ».
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِبْضَاعِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ».